فن سبك المعادن وعمق التجربة الفنية يبدو أن سبك المعادن متلازم مع اكتشاف إنسان الحضارات القديمة للمعادن نفسها. وربما كان بحثه الحثيث لتفسير الظواهر الطبيعية اليومية، وكيفية التعايش معها جعل وقع اكتشافه لتصلب الطين بالنار وقع السحر، إذ ظل إنسان العصور الحجرية ينتج بالطين كل مايحتاجه من أواني لطعامه وشرابه وحلي لزينته وحتى آلهته التي كان يعبدها. ولنا أن نتخيل وقع اكتشاف المعادن وانتقال الإنسان من العصر الحجري إلى العصر البرونزي ومن حياة التنقل والصيد إلى الاستقرار والزراعة والري.
وكان هذا الاكتشاف نموا طبيعيا للمعارف التي جمعها والخبرات التي اكتسبها، إذ كان من الضروري أن يمارس الإنسان القديم تشكيل الحجر وتطويعه، كذا الطين وتطويعه وحرقه ليتمكن من صهر المعادن وسبكها وتشكيلها. ومما نعرفه عن قصة اكتشاف المعادن من الصخور وتعامله مع الخامة، يظهر أنه استخدم خبراته السابقة مع الحجر والطين للتشكيل بهذه الخامة اللينة، الصلبة في آن واحد، وعند اكتشافها وجدها مخفية بين الصخر، ولإخراجها لا بد من تسخين الصخر، فيسيح المعدن كالماء المتلهب، وعندما يبدأ في البرود يغدو كالطين اللين، وما إن يبرد أكثر حتى يتصلب كالحجر. ومن الثابت أن الاستخدامات الأولى للمعدن كانت تتمثل في سبكه في أشكال مختلفة، وصبه في قوالب من الطين والتعامل معه كخامة الخزف، بل إن هذه الصلة بين الخامتين دفعت الإنسان إلى تقليد الأشكال التي صنعها بالخزف وإنتاجها بالمعدن. واستطاع الإنسان بعد فترة من تعامله مع قساوة المعدن تمكن من تشكيله كالحجر. ومن حسن الحظ أن معدن النحاس الأحمر كان أول المعادن المكتشفة، وهو معدن لين سهل التشكيل، وهذا ما دفع الإنسان للاستمرار والسيطرة على المعادن الأخرى.
وبإشراك الشمع في عملية التشكيل أصبح تشكيل المعدن شبيها بتشكيل الطين، فأصبح "السبك بالشمع المطرود" الطريقة المتبعة في الحضارات القديمة في وادي النهرين ثم انتقلت سريعا باتجاه الغرب إلى وادي النيل وشرقا لشبه القارة الهندية. و يُوجد الشمع في الطبيعة من مصادر عدة حيوانية ونباتية وهو لين سهل التشكيل كالطين، وبعد التشكيل يغطى بطبقات متعددة من الطين السائل حتى تتكون قشرة سميكة تغطى الشمع. ومن ثم يطرَد الشمع من القالب بالنار ويصهر المعدن ويصب في مكان الشمع في القالب. وكانت الأعمال التي أنتجها الفنانون في تلك العصور صغيرة الحجم مصمتة نظرا لأن قالب الصب في هذه الحالة لن يتحمل أعمالا كبيرة الحجم كما أن المعدن المصهور لن يسيل لمسافة طويلة، وربما لشح المعدن وصعوبة الحصول عليه. وكان لا بد من إنتاج أعمال مفرغة من الداخل ويمكن التحكم بسمك جدرانها كالخزف. وقد استطاع السباكون الصينيون كما عرفنا حل المشكلة باستخدام "النواة" جعل من الممكن سبك أواني معدنية جدرانها رقيقة برقة مثيلاتها في الخزف. ومن هنا بدأت تقنية سبك المعادن في أخذ مكانها في التجربة الفنية الإنسانية وظل لفترات طويلة في تاريخ الفنون يعد الوسيلة الوحيدة للنحت بالمعادن وعمل الزخارف المعدنية التي كانت تزخرف بها المزهريات المعدنية او البوابات. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ماذا وراء تمسك الفنانين عبر عصور التاريخ بالمعادن وبتقنية السبك بشكل خاص؟
الاعتقاد الديني هو العامل الرئيس والمحرك الأساسي لإبداع الإنسان عبر الحضارات القديمة وهو في رأينا سبب استخدام المعادن في إنتاج ما يحتاج إليه من مستلزمات حياته. فإيمان الإنسان المصري القديم بحياة خالدة بعد الموت ساقه لاستخدام المعادن في عمل الحلي وبعض الأدوات اليومية الأخرى التي كانت تدفن مع الميت ليستخدمها في "حياة الموتى." وفي عرف الفن المصري فإن المواد الصلدة كانت قد خصصت لتماثيل الملوك التي يراد لها البقاء (عكاشة: ص 320). وقد عرف المصريون السبك و واستخدموه في إنتاج العديد من المصنوعات والتماثيل لترافق الميت في قبره.
وقد استخدم الإغريق المنحوتات للأغراض الدينية في أغلب الأحيان. و وظفوا البرونز والنحاس الأحمر المسبوك على هيئة تماثيل صغيرة تستخدم كقرابين منذ القرن 10 ق.م . (ٌريتاشر: ص 53) و مع أن خامات أخرى كالحجر والطين قد استخدمتا في أنتاج هذه القرابين إلا أن مقاومة المعدن للعوامل الطبيعية جعلها خامة مفضلة. وحتى التماثيل الكبيرة في فترات من التاريخ اليوناني كانت تعمل من البرونز المسبوك والتي عادة ما تصور الآلهة. ومن أبرز الأمثلة الكلاسيكية تمثال من البرونز للإلة زوس.
وقد استمر الفنان الأوربي في العصور الوسطى وعصر النهضة على نفس النهج الديني في فنونه. وقد لعبت المعادن المسبوكة دورا أساسيا في هذا المجال، وكان هرم الإبداع النحتي في القرن 15 م النقوش البرونزية على أبواب معمودية فلورنسه من إبداع النحات جيبرتي. وقد صورت لوحاتها الصغيرة بعض القصص الديني بأسلوب مبتكر في مجال النحت قدمه جيبرتي وعرف باسم "سكياتشاتو"، والتي أعجبت روعتها المثال مايكل أنجلو فأطلق عليها "بوابة الفردوس." (يونان 289).
وإن كان الدافع الديني قد كان المحرك وراء توظيف المعادن وعلى الأخص في مجال النحت في الحضارات الغربية إلا أن عددا من المنحوتات والأعمال الصغيرة من المعادن المسبوكة كانت لا تدخل ضمن الاتجاه الديني. ففي الحضارة الإغريقية قام الصناع بعمل مرايا معدنية كانت مقابضها تماثيل آدمية مسبوكة. كما ترك الصناع لنا نماذج من كؤوس وأباريق ومزهريات بعض أجزائها سبكت بالبرونز.
وقد أختار الرومان السبك لعمل التماثيل الميدانية لقوادهم وأباطرتهم وذلك لقدرة المعدن على مقاومة التغيرات الجوية، إضافة إلى تعبيرها ربما عن معنى الصلادة والقوة. علاوة على أن العديد من هذه النصب بها أجزاء ممتدة مثل أرجل الأحصنة أو أيدي الشخوص.
ومن الاستخدامات الغريبة للسبك ما سنته بعض المدن الفلمنكية في أن السجناء الذي يقترفون بعض الجرائم، يحكم عليهم أن يدفعوا تكاليف عمل نسخة من وجوههم أو أياديهم تصب بالبرونز للإعلان عن جريمتهم (إلسن: ص115).
و في الفن الإسلامي استغل الصناع الإمكانيات التشكيلية التي يقدمها السبك من تحكم بالشكل وعمل الزخارف البارزة والغائرة. وعلى الرغم أن الصناع المسلمين قد برعوا في تشكيل المشغولات بالطرق وزخرفتها بالتحديد، إلا أن إمكانيات سبك المعادن قد اجتذبت ملكتهم الإبداعية، إذ أتاحت لهم حرية التشكيل والتزويق والخروج عن محدودية التماثل بين نصفي المشغولة والذي عادة ما تتميز به الأعمال المطروقة. وبالنظر إلى الأواني المكفتة في بعض الأحيان نرى أنها عملت بالسبك وكان من الممكن تشكيلها بالطرق، إلا أن الصانع اختار السبك من ما يبدو بسبب قوة تحمل الأعمال المسبوكة للاستخدامات اليومية، ومن المحتمل أيضا أنه اختار هذه الطريقة لإنتاج عدد من المشغولات بنفس الهيئة العامة ويتم زخرفتها بعد ذلك بأقلام التحديد أو النقشومن هذه المجموعة هنالك أباريق مسبوكة من البرونز ومطعم بالفضة في زخارف نباتية وكتابية. ومن الأمثلة البارزة في صناعة الأباريق البرونزية أبريق يتكون من بدن كروي تزينه زخارف على شكل أهلة محزوزة وتحتها دوائر ويلها رسوم لحيوانات وطيور في الجزء السفلي القريب من القاعدة. ويبرز من البدن صنبور على هيئة ديك فاردا جناحيه ومفتوح المنقار لكي ينسكب منه الماء. أما عنق الإبريق فهو اسطواني مزخرف بدوائر محفورة، وتعلوا فوهة الأسطوانة العلوية زخارف نباتية مفرغة ذات تجسيم واضح. ويتكرر هذا الأسلوب في زخارف مقبض الإبريق. ولقد شهد العديد من الدارسين على روعة وجمال هذا الإبريق واعتبروه تحفة ملكية رائعة (حسين 1981م: 239، ديماند 1982م: 142).
وفي فنون المعادن ورغبته الانطلاق بالشكل إلى آفاق جديدة. فقد صنع المباخر بأشكال أسطواني مفرغة لكي يسمح للدخان المتصاعد منه للخروج على هيئة أقواس. كما أن ومن أروع ما أنتج صناع خراسان مبخرة على شكل أسد واقف سبكت بعض أجزاء جسمه على الأغلب وشكلت بعضها بالطرق. فجسم المشغولة مزخرف بزخارف مثقبة، ويزاح جزء الرأس والرقبة لوضع البخور بداخله لتنبعث الأدخنة وروائح البخور العطرة من خلال الزخارف ومن خلال عيني الأسد وفمه المفتوح . كما حليت بعض الأجزاء من هذا المجسم بأشرطة من الزخارف الهندسية والكتابات الكوفية. ولا بد أن منظر هذا المبخر كان مؤثرا. وهنالك عدد من هذه المباخر على شاكلته في عدد من المتاحف العالمية.
وأنتج الصناع شمعدانات بأحجام وأشكال متنوعة بعض منها تم تنفيذه بتقنية السبك. ومن هذه الأمثلة ما أوردناه وهو عبارة عن القاعدة التي زخرفت بوحدات نباتية محفورة، أما حاملي الشموع فهما عبارة عن تنينين ملفين حول بعضهم البعض. وينتهي كل حامل في فم التنين وهو مفتوح. ولقد كان الفلكيون المسلمون يرمزون إلى الخسوف والمقري والكسوف الشمسي بحيوان التنين. ولابد أن الصانع لهذا الشمعدان قد قصد من اختيار هذا الشكل للشمعدان أن الشموع وهي تذوب تبدو وكأن التنينان يبتلعان مصدر الضوء (ورد 1993: 104).وظهرت في بعض الأباريق المسبوكة أيضا على شكل طيور وحيوانات يتبين مها أن مثل هذه الأشكال ربما كانت تسبك بأعداد كبيرة أو أنها كانت تعمل لاستخدامها في مناسبات خاصة. ومن الأمثلة المتقدمة من هذا النوع إبريق كبير بهيئة طائر يقف على قدمين وملامحه واقعية وحتى ملامس ريشه عملت بأسلوب يتماشى مع أسلوب معالجة الزخارف التي نقشت عل كافة أجزاء الجسم والمكتفتة بالفضة والنحاس الأحمر. ويظهر اسم الصانع وتاريخ الصنع في خط كوفي حول رقبة الطائر. والطائر في كله الحالي وجد بدون العروة التي كانت تبدأ من أعلى الرأس وتنهي على ما يبدو قرب نهاية الذيل (شكل20).
ومن أشكال الأباريق المسبوكة الغريبة في موضوعها هي أبريق يمثل بقرة ترضع عجلا صغيرا بينما يتشبث أسد بظهرها. فمن الناحية التقنية فقد تمت عملية سبك كافة أجزاء القطعة مرة واحدة، وقد تفاخر الصانع بذلك في الكتابة المنقوشة الموجود حول عنق الإبريق. وقد زينت سطوح المشغولة بزخارف محفورة. أما من الناحية الموضوعية فإن البقرة تبدوا مشغولة برضيع عجلها غير عابئة بما يجري فوق ظهرها.
وقبل أن ننهي الحديث عن المعادن في الفنون الإسلامية وما تطرقت إليه من مواضيع لابد أن من أن نشير إلى مجسم مسبوك من النحاس لحيوان الغريفن المجنح الذي يتكون من أربع قطع: جناحي و رأس صقر بمنقار حاد ويعلو الرأس أذنان، ويتدلى من أسفله (زلمتان)، وجسم هذا الحيوان الخيالي جسم أسد، وذيل قد فقد. وقد ثبتت الأجنحة مع الجسم بالبرشمة أما الرأس فثبت بطريقة مبتكرة في أعلى الرقبة. الزخارف التي زينت الصدر والرقبة تبدوا مستوحاة من السطوح الطبيعية، ولكن على الأفخاذ نقشت زخارف لحيوانات أخرى. أما الظهر فيوحي برداء من الحرير عليه أشكال دوائر وعلى حافته نقشت كتابات كوفية تحتوي على تباريك لصاحب العمل. وارد (1993م: 66) تؤكد أن هذا الحيوان لابد انه كان يحمل شيئا ثقيلا مثل نافورة أو شمعدان، وتستدل على ذلك بوجود فسحة لهذا الغرض بين الجناحين.
وقد كان هذا التمثال يقف في كتدرائية في بيزا لمدة أربعة قرون ولا يزال مجهول المنشأ. فمن المؤرخين من يعتقد أنه صنع في إيران، ومنهم من يقول أنه صنع في سسلي بإيطاليا على يد صناع مسلمين مهرة كانوا يعملون هناك. وهناك اعتقاد أيضا يرده إلى شمال أفريقيا أو مصر الفاطمية كما قرر رايس (1975م: 94) أو الأندلس. والغرفين يعود إلى الأساطير اليونانية القديمة، وكان يعد حارس مناجم الذهب في إحدى أقاليم بالإغريق. وقد استخدم كثيرا في فنون العصور الوسطى في أوروبا، وفي بدايات الفن المسيحي كان يرمز للشيطان، ولكن بعد ذلك تحول ليرمز إلى المسيح. وربما كان هذا السبب وراء وجوده في الكنيسة.
وضلت المعادن الثمينة كالذهب والفضة تستخدم في الحلي وكان منها ما يسبك على هيئة أشكال صغيرة. إلا أن بعض الحلي الإضافية (الاكسسوارات) كانت تسبك من البرونز (تايت: ص 54). وتبين الدبابيس المسبوكة في إيران مابين 1000- 700 ق.م. أن المعادن المسبوكة ساعدت الفنان على إظهار ليونة الشكل الزخرفي، كما الأشكال النحتية الدقيقة.
وفي الصين سبكت القبائل الصحراوية أشكالا للحيوانات المحيطة بهم من الفضة أو الذهب وتدل التفاصيل التي كانت تظهر على منتجاتهم تمكنهم من أظهار التجسيم في هذه المسبوكات بالرغم من أنها أشكالا نصفية. كما قامت القبائل السلتية في أوروبا بعمل أشكالا من الدبابيس التي كانت تصنع عادة من الذهب أو الفضة او البرونز. وقد استخدمت هذه الدبابس في الحلي التي تدفن مع الميت (تايت: ص 72).
ولم يكن متاحا لكثير من الحلي في العصور الوسطى في أوروبا أن تعبر عن النياشين والمراتب الاجتماعية من دون مساعدة السبك. إذ أن عددا من الحلي في تلك الفترة وظفت تماثيل صغيرة لطيور وحيوانات في الحلي، ما كان يمكن عملها بهذه الدقة المتناهية إلا من خلال تقنية السبك.
وحتى لو انتقلنا إلى الشرق الأقصى فإننا سنرى أمثلة متميزة في توظيف السبك في الحلي. ومن الأمثلة التي توضح مهارة الصناع في كوريا مجموعة من الأشكال من الصياغة التخريمية يعود تاريخها بين القرن 11- 13م، وتبين أشكالا بارزا لتنانين وطيور أسماك وزهور، سبكت من الفضة وطليت بالذهب ولا يزيد ارتفاعها عن 4سم. وقد استطاع الفنان إظهارُ ملامس الأشكال المختلفة التي تتكون منها كل حلية.
واستمرت تقنية السبك عبر قرون النهضة الأوروبية التي خطت فيها الفنون الأوربية خطوات واسعة لتأصيل الفن في الاتجاه الكلاسيكي، أنتج فيها الفنانون أعمالا نحتية عظيمة بخامات متنوعة كان للمعادن المسبوكة النصيب الوافر منها. وقد كان الكثير من النحاتين في عصر النهضة يعملون في إنتاج الحلي ويوظفون السبك ضمن تقنياتهم.
ومن الأمثلة الطريفة من الحلي الإنجليزية دبوس صغير من الذهب لشمعدان امتطاه جرذ. ومن الملاحظ التفاصيل الدقية وملمس الجرذ حققها الفنان بواسطة السبك
وإذا نظرنا على إلى الفن الحديث منذ وضع أسسه عند الانطباعيين كما يذهب الكثير ممن كتبوا في تاريخ الفن والنقد. فقد قال عنها هربت ريد أنها "... واحدة من أكثر الثورات اكتمالا في التاريخ" (ص: 119). كما أشار إليها هابز (1980) وكذلك هاوزر (1971)، وقال عنها عزالدين إسماعيل أنها "... تمثل نقطة من أهم نقاط التحول في تاريخ الفن الغربي... وكان هذا حدثا في تاريخ الوعي لدى الإنسان بالع الخطورة... لسائر الحركات والمذاهب الفنية" التي تلت الانطباعيين (ص: 148-150). وعند مولر اعتبر الانطباعيين واضعي أصول الفن المعاصر (ص: 17).
ومجال النحت من المجالات الفنية التي ضلت مرتبطة بالطرق التقليدية التي مارسها الفنانون منذ القدم. فبينما بقيت طريقة الإزالة- النحت من الحجر- هي الطريقة المفضلة لكثير من الفنانين، احتل التشكيل بالصلصال أو الشمع لعمل نموذج يتم عمل قالب له ومن ثم صبه بالطين السائلة أو المعدن المصهور، من التقنيات التي وجد فيها فنانو القرن التاسع عشر اللينة والطواعية التي احتاجوها للتعبير الجديد. وربما كان لسيطرة الأكاديميين التقليديين على فن النحت سببا في بقائه مرتبطا ارتباطا قويا بالطرق التقليدية وعدم تبنيه المفاهيم والتقنيات الجديدة (أمهز: ص61-63).
وقد ترك الفنان أندريه دوميه مجموعة من الأعمال النحتية أغلبها من الطين ولكنها لم تعرف على نطاق كبير، أي أنها كانت بمثابة أعمال شخصية وليست للعرض العام. وهنالك أمثلة من هذه المجموعة تم سبكها بعد وفاة الفنان. وقد اخترنا مثالا بين حب الفنان لليونة في الشكل والإيحاء بالطاقة الداخلية للألوان والتي عبر عنها دوميه في لملابس والشعر والبشرة والتي أكدتها الخامة والتقنية.
ومن الأسماء اللامعة بمجال النحت في القرن التاسع وبداية القرن العشرين أوغست رودان. فقد تميزت أعماله المسبوكة على وجه الخصوص بكسرها للقواعد الأكاديمية بعد دارسته المتعمقة للنحاتين الكبار في عصر النهضة مثل دانتلو ومايكل أنجلو وبذلك اكتشف "سر الحركة بمدلولها الروحاني الجسدي... يسعى النحات إلى إبراز عناصر النحت الأساسية والتأكيد على أهمية العلاقة التي تجمع بينها، كالعلاقة بين الأحجام والفضاء المحيط بها." (أمهز: ص 66).
ومن أبرز نحاتي القرن العشرين الفنان الإنجليزي هنري مور والذي مارس فنه بخامات متنوعة من الخشب والحجر والرخام والجص والمعدن. وقد كان نصيب السبك في أعمال مور نصيب وافر من الإعمال الصغيرة والكبيرة. وقد ساعد السبك إظهار ليونة الخطوط وتأكيد والكتلة والفراغ اللذان تتميز بها أعمال الفنان.
وقد تألق بابلو بيكاسو كمصور تشكيلي ينسب إليه ورقيقة جورج براك ظهور المدرسة التكعيبية في الفن التشكيلي. إلا أن بيكاسو مارس أيضا فن الخزف والنحت وفن الطباعة والحفر وأنتج من خلالهم مجموعة كبيرة من الأعمال بأساليب وتقنيات مختلفة. وقد أضاف بيكاسو إلى مجموعة الإعمال التي أنتجها مجموعة من الإعمال النحتية سواء المجمع منها أو المسبوك. وفي عمله النحتي "رجل مع حمل" يبدو الرحل وهو يحمل الحمل الوديع بين يديه بينما لا نعرف ما هو مصيره. ولعلنا ندرك ما كان يرمي إليه بيكاسو من رمزية إذا عرفنا إنه قام بإبداع هذه المنحوتة الكبيرة (ارتفاعها 140 سم) أثناء احتلال الألمان النازيين لباريس التي كان بيكاسو يقطنها في ذلك الحين.
وقد تنوعت إسهامات النحاتين وأصحاب الصناعات التقليدية في الوقت الحاضر، وحافظ السبك على حيز ذو اعتبار من بين التقنيات المستخدمة، ذلك إن خواصه الفيزيائية تعطي للفنان المبدع مساحة واسعة من التعبير، عملت على تعميق المعاني والرموز التي يسعى الفنان لإظهارها.
والفنان العربي المعاصر له الكثير من الإسهامات الفنية التي وظف فيها الإمكانات الفنية والتعبيرية المتعددة لفن النحت من خلال تقنية سبك المعادن. وكان لابد أن يعتمد الفنان على الإرث الفني العالمي ليخرج بعد ذلك بصياغة ذات هوية تعبر عن مجمعه وتحاكي ارثه الثقافي. ولسنا هنا في صدد سرد ما قدمه الفنانون العرب في هذا الصعيد، لان ذلك سوف يحتاج إلى دارسات متمعمقة لا مجال لها في هذا الكتاب، بل أننا سوف نحاول أن نلقي الضوء باقتضاب على رائدين من في هذا المجال هما محمود مختار وجواد سليم. وعلنا نعرض نماذج مصورة أخرى لبعض النجاحات لفن السبك في الفن العربي المعاصر.
مما لا شك فيه أن محمود مختار هو رائد النحت المصري ورائد النحت العربي المعاصر. ولد الفنان في عام 1891 في ريف مصر وكان في طليعة الملتحقين بمدرسة الفنون الجميلة التي فتحت أبوابها لأول مرة عام 1908 بالقاهرة. ولم ينس مختار جذوره المصرية والعربية حتى أثناء دراسته في باريس بعد تخرجه من مصر عام 1911م. فقد كان طول حياته الفنية التي انتهت بموته عام 1934م عن عمر لم يتعدى الثالثة والأربعين من العمر، قد اتخذ من الفلاح والفلاحة، واستلهم من الحياة المصرية والمشاعر الاجتماعية العامة ووظف الرموز والموضوعات التراثية في أعماله النحتية، فغدت الطابع المميز لفن مختار.
وقد حازت أعمال النحات على اهتمام العديد من النقاد الغربيين، كما فاز بالميدالية الذهبية في صالون باريس عام1929، وفي عام 1930عرض اربعين تمثالاً في قاعة (برنهايم) بباريس. وقد نال كل هذا التقدير من خلال منحوتاته التي بجانب التزمت بأصول النحت الكلاسيكي وتقنياته إلا "منهج مختار- الفني والأخلاقي- يجعله يعتد إلى كبح جماح الرغبات بكواتم الحياء… إن مجمل إبداع "مختار" كان، ولايزال، دعوة للمصالحة مع الموروث الفني المصري: (البنائي- السكوني) والموروث ( الأخلاقي- الديني)" (بقشيش 1992م: 14).
وإن كانت منحوتته "نهضة مصر" (1928م) تمثل رمزا مصريا صرفا، إلا أن هنالك العديد من إعماله المصرية المسبوكة تترجم اهتمام مختار بتخير التقنيات المناسبة لأعماله. ففي حين يضفي على منحوتاته الجرانيتية والرخامية ملمسا ناعما حسب المواضيع التي تطرحها، فإن أعماله البرونزية تميزت بملمسها الذي المستمد من ملمس الطين المرتبط بموضوعات هذه الأعمال في "الغيط والترعة والريف".
يعتبر العراقي جواد سليم رائدا آخر في تاريخ النحت العربي الحديث, وولد عام 1919م من أب عراقي كان يعيش في تركيا والذي كان موهوباً يمارس التصوير, و كان ميله هذا قد غرسه في أولاده والذين أصبحوا أسماء تشكيلية لامعة في الفن التشكيل العراقي. وقد درس جواد سليم في باريس إيطاليا ثم بعد ذلك انتظم منذ عام 1946- 1949م بمدرسة سليد للفنون في بريطانيا.
وكما كان محمود مختار مولعا بتراثه وادي النيل القديم والريف وبساطته، كان هاجس جواد سليم تأسيس فن عراقي يأخذ جذوره من فن وادي الرافدين ويسلتهم من والرموز والعادات والموروثات الشعبية والتراث الفني العراقي على مر الصور. وهذا الحلم وضعه جواد سليم في ذاكرة التشكيل العراقي عندما أسس هو وفريق من زملائه جمعية الفن المعاصر عام 1951م.
ولقد مارس جواد سليم النحت والتصوير ولكنه كان مقلا ولعل همه كان تثبيت مفهوم فلسفي لفن محلي ينبع من ارض وطنه. "ولقد مر نحت جواد بمراحل مختلفة, فكان فيها تجريدياً مرةً و تعبيرياً مرة, و متأثراً بهنري مور مرة, و لكن اصدق مراحله و أكثرها تحديداً لشخصيته, تلك المرحلة التي عَصْرَ فيها تقاليد الفن الرافدي في نصب الحرية الذي أقيم في بغداد رائعة أعماله النحتية, و خلاصة عبقريته” (البهنسي 1985م: 126).
ولقد ركز "نصب الحرية" (1961م) على الإنسان المعذب المسلوب الحرية. فلقد كانت الخامة التي اختارها الفنان هي البرنز المسبوك و على امتداد جسر عريض يبلغ طوله خمسين متراً ثبتت عناصر المواضوع في أربع مجموعات. الأولى تمثل القدر الظالم و الصمود الانساني و المجموعة الثانية, البطل المنتظر يعلن عن رسالة حضارية خالدة و عقيدة جديدة. و وقد سعى النحات أن ترمز هذه المجموعة إلى قوى للأمل و التحدي و الطموح, وإلى المأساة الأزلية, ثم الأمومة و التحرر, الأرض الطيبة وثمارها ثم العمل و الإنتاج, و أخيراً الأمل والتطلع نحو المستقبل الزاهر (البهنسي 1985م: 126-127). ولم يشهد النحات جواد سليم احتفال إزاحة الستار عن ملحمته النحتية، فقد مات الفنان إثر أزمة قلبية قبل ذلك بعدة اشهر عن عمر يناهز 41 عاما.