بسم الله الرحمن الرحيم
أسقط الشعب النظام، بدأ عهد جديد، نمر الآن بمرحلة الانتقال أو التحول الديمقراطي إلى نظام ديمقراطي جديد نيابي الأمة فيه مصدر السلطات، السلطة فيه ليست فرعونية ولا مؤبدة، الانتخابات الحرة النزيهة هي التي تحقق تداول السلطة يبن الأحزاب والقوى السياسية.
استيقظ المصريون ليلة 11 فبراير 2011 على صباح جديد يوم 12/2، وجدوا نظامًا استبداديًّا فاسدًا مفسدًا انهار فجأة بعد 18 يومًا من الثورات والفوران، وصدق الله العظيم: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)﴾ (سبأ).
اتفق المصريون جميعًا على هدف واحد وأنجزوه بعون الله تعالى، دون مساعدة من أية قوى أخرى إلا قوة الله التي نفخت فيهم من روح الله، أسقطوا النظام، وتمثل ذلك في تنحي مبارك لأول مرة في تاريخ مصر.
تتباين اليوم آراء المصريين حول المرحلة الانتقالية، وهذا لا يزعج أحدًا لأن الهدف النهائي الذي يتفق عليه كل المصريين هو بناء نظام ديمقراطي جديد لا إقصاء لأحد فيه، ولا سيطرة لهيئة أو مؤسسة ولا حزب، الشعب فيه هو الضمان الحقيقي لعدم تكرار ما حدث من قبل، والجيش فيه ضامن لعدم الانقلاب على الدستور كم حدث من مبارك وابنه وعصابته التي ظهرت جرائمها الآن للعيان، والرأي العام فيه حر لا تحجب عنه أية معلومة والحوار فيه متكافئ بين الجميع في إعلام حر ملك للجميع، والدولة فيه هي دولة القانون والدستور وليست دولة القرار الواحد، والحقوق فيه متساوية بين كل المواطنين في الواجبات.
وفي خضم الاحتفالات الصاخبة التي نشكر فيها الله عز وجل على فضله ونعمته لا ننسى فيها أمرين:
الأول: شهداء الثورة وجرحاها الذين ضخوا بدمائهم فكانت هي ثمن النصر ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ (آل عمران: من الآية 140).
هؤلاء يجب علينا أن نتداعى جميعًا لدعم أسرهم والوفاء لهم وتذكرهم على الدوام.
الثاني: التفكير الهادئ والسريع حول المرحلة الانتقالية، واضعين نصب أعيننا الهدف النهائي للوصول إلى بر الأمان، عهد جديد ونظام ديمقراطي حر على أسس متينة راسخة.
لقد تسبب مبارك طوال حكمه وعند رحيله بانعدام المسئولية تمامًا، وأراد طوال حكمه وأثناء الثورة وعند تنحيه أن يحدث فوضى عارمة يستحق عليها المساءلة.
ظل طوال 30 عامًا لا يعين نائبًا للرئيس، ويرفض تحديد مدة حكمة بدورتين، وقال إنه سيظل معنا إلى آخر نفس يتردد وقلب ينبض.
وحاول طوال العشر سنوات الأخيرة أن يورّث البلاد لأولاده الواحد بعد الآخر باستماتة شديدة.
وعندما ثار المصريون في 25/1/2011م نفذ وزير داخليته بأوامر خطة موضوعة سلفًا لإحداث الفوضى في البلاد بإخراج آلاف المساجين الجنائيين من الزنازين، وتدمير جهاز الشرطة ومقراته لتغرق البلاد في العنف والعنف المضاد، وعندما قرر الرحيل بعد محاولات للالتفاف على مطالب الجماهير استجدى عطف القادة العسكريين ليبقى إلى آخر رمق في السلطة فكان خروجه على الدستور ليضع البلاد في مأزق دستوري، ولم يستخدم أية مادة من مواد الدستور القائم، ولم يستجب لطلب المعارضة بإلغاء حالة الطوارئ وحل البرلمان.
هنا بدأت الاجتهادات تتوالى بين مسارين وقد انهارت شرعية النظام بعد تآكلها على مدار عقود وسنوات وبدأنا نعد البلاد لشرعية جديدة يضعها الشعب.
والسؤال الملّح: هل نهمل الدستور القائم تمامًا وفق إعلانات دستورية أو دستور مؤقت أو بدون دستور؟ (هذا ما حدث بعد حركة الجيش عام 1952م) أم نسترشد بالمبادئ والأسس والمواد الدستورية القائمة في الدستور 1971م والتي لم يشملها الانقلاب الدستوري عام 2007م؟
إن القائلين بإهمال الدستور تمامًا يتغافلون عن نقطة خطيرة وهي أن الجيش لم يقم بانقلاب عسكري ليتسلم السلطة، وإنما تسلمها ليدير البلاد في المرحلة الانتقالية وفق القواعد الدستورية ما أمكن ذلك وعلى القوى السياسية أن تتعاون معه على الانتقال السلمي والسلس إلى الديمقراطية وتعود السلطة إلى الشعب.
لقد ساند الشعب المصري الجيش خلال قرن مضى مرتين في حركة وثورة عرابي، وحركة 1952، واليوم جاء الدور على جيش مصر العظيم الذي حرص عبد الناصر والسادات ومبارك على إبعاده تمامًا عن السياسة حتى لا تتكرر في مصر مأساة الانقلابات العسكرية التي ما زالت تجري في بلادنا العربية.
ماذا قال الجيش حتى الآن في بياناته الأربعة حتى كتابة هذا المقال؟
في البيان الأول كان النص واضحًا: (انعقد الخميس 11/2 المجلس الأعلى للقوات المسلحة) تأكيدًا وتأييدًا لمطالب الشعب المشروعة، كان الانعقاد برئاسة السيد المشير محمد حسين طنطاوي ودون حضور الرئيس مبارك وباكتمال القواد جميعًا دون غياب لأحد كما يبدو لنا.
إذن كان هذا اعترافًا بالثورة التي أعلنتها الملايين، وأعطى الجيش الرئيس مبارك فرصة لمعالجة الأمور.
في البيان الثاني: 11/2 الجمعة وبعد خطاب الرئيس الذي فوّض فيه اختصاصاته لنائبه السيد عمر سليمان الذي جاء متأخرًا كالعادة، أعلن الجيش ضمان تنفيذ تعهدات الرئيس، وانتظر ليرى رد الفعل الشعبي الذي جاء عارمًا غاضبًا محبطًا ولم يتعاطف أحد مع مبارك كما حدث مع خطابه الأول الذي بددته مجزرة الجمل والحصان يوم الأربعاء الدامي 2/2 والذي تصدى له الأبطال الشباب بصدور عارية، وسقط عشرات الشهداء وآلاف الجرحى برصاص القناصة وزجاجات المولوتوف والحجارة.
تعهّد الجيش هذه المرة بالتزامات واضحة هي:
1) إنهاء حالة الطوارئ فور انتهاء الظروف الحالية.
2) الفصل في الطعون الانتخابية وما يلي في شأنها من إجراءات.
3) إجراء الانتخابات التشريعية.
4) الالتزام بالتعديلات التشريعية اللازمة.
5) إجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة وفق التعديلات الدستورية.
كما أكدّ الالتزام السابق برعاية مطالب الشعب المشروعة ومتابعة تنفيذها في التوقيتات المحدّدة حتى يتم الانتقال السلمي للسلطة، وصولاً إلى المجتمع الحر.
كما تعهد بعد الملاحقة الأمنية للشرفاء الذين رفضوا الفساد وطالبوا بالإصلاح.
وطالب المواطنين بضرورة انتظام العمل بمرافق الدولة.
نحن إذن أمام مشروع جدول زمني وترتيب للإجراءات المطلوبة خلال مرحلة الانتقال، وتعهدات واضحة لبقية المطالب المشروعة اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
الذي غاب عن هذا البيان- وعلله لعدم حسم الأمور وبسبب بقاء الرئيس وتفويض الاختصاصات لنائبه، هو الموقف من البرلمان المزور بمجلسي الشعب والشورى وكأن المطلوب هو تصحيح وضع البرلمان فقط دون حله ليقوم بإجراء التعديلات الدستورية وفق البيان الذي أعلن السيد عمر سليمان الذي لم يتخل عن خطته التي تسبق فيها الانتخابات الرئاسية تلك التشريعية، وهو ما يضع البلاد من جديد في قبضة رجل واحد دون مجلس تشريعي منتخب يمثل كافة التيارات.
إلا أن ما يلفت الانتباه أيضًا ذلك الترتيب الزمني الذي يمهد لما بعده من بيانات وإجراءات وهو تقديم الانتخابات التشريعية على تلك الرئاسية.
وهو ما يوحي بأن الجيش (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) لديه خبراء وفقهاء دستوريون يقدمون له البدائل لمرحلة الانتقال الديمقراطي.
وكذلك أن الحديث عن التعديلات التشريعية جاء بعد إجراء الانتخابات التشريعية ليقوم بها برلمان حر منتخب وليس برلمانًا مزورًا يبصم ويوافق مكرهًا على ما يقدمه له الممسك بمقاليد السلطة (وكما كان الحال من قبل).
انتظر الجيش رد فعل الشعب على خطاب الرئيس، وظل على ولائه للشرعية الدستورية التي تجعل رئيس البلاد ونائبه في السلطة رغم أنف الشعب.
هنا جاء الانفجار الملاييني الكبير في يوم الجمعة الأخير (جمعة التحدي) وظهر واضحًا للعيان أن الرئيس ونائبه لم يعد لهما مكان، بعد أن أحبط الرئيس ونائبه آمال الشعب في تحقيق الأهداف العظيمة، وكأن المطلوب من وجهة نظرهما فقط إصلاحات جزئية تسكّن الأوضاع وأن الشعب سينسى بعد حين.
هنا جاء البيان الثالث: (الجمعة 11/2) بعد أن رضخ مبارك وأعلن نائبه عمر سليمان خبر تنحيه وتكليفه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد دون استناد إلى المواد المعروفة سلفًا وهي (74) أو (82) أو (84).
وكان بيان الجيش مقتضبًا إلا أن أهم ما يلفت الانتباه فيه التالي:
- جسامة التكليف وخطورته أمام المطالب الشعبية.
- التغييرات المطلوبة جذرية.
- أن المجلس يتدارس الأمر وسيصدر فيما بعد بيانات تحدد الخطوات والإجراءات والتدابير.
- والأهم والأخطر: أنه ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب.
- تحية وتقدير للرئيس تحمل معنى ضمان سلامته الشخصية وعدم ملاحقته.
- تحية أكبر وأعظم لشهداء الثورة ومعها تحية عسكرية تحمل دلالات خطيرة وهامة.
والسؤال ما هو الأساس الدستوري الذي استند إليه المجلس الأعلى للقوات المسلحة لأنه لم يقم بانقلاب لتسليم السلطة ولكنه تم استدعاؤه في لحظة وصفها بالتاريخية الفارقة؟
القوات المسلحة يحدد الدستور مهامها في المواد (180) و (182).
تقول المادة (180): الدولة وحدها هي التي تنشئ القوات المسلحة، وهي ملك للشعب مهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها (فقرة أولى).
والمادة (182) ينشأ مجلس يسمى "مجلس الدفاع الوطني" ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته ويختص بالنظر في الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها (فقرة أولى وثانية).
وهنا نعتقد أن الجيش لم يلغ الدستور بل ويعمل وفقًا لمقتضاه، وبالتالي فهو أمام خطوات وإجراءات وتدابير لا بد من الاسترشاد بالدستور القائم للعمل بها وإلا حدث فراغ دستوري ونكون أمام انقلاب عسكري لم يقم به الجيش ولا يرغب في القيام به.
وقد قال ذلك البيان بوضوح: أنه ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب وبذلك فإن الشرعية القائمة والتي يستخدمها الجيش صلاحياته في إدارة شئون البلاد من الرئيس المخلوع في غياب نائب الرئيس الذي لم يعد له وجود شرعي في ظل بطلان انتخابات مجلس الشعب الذي صدرت بحقه أحكام وصمته بالبطلان والانعدام فليس هناك رئيس لمجلس الشعب يتولى الرئاسة مؤقتًا، يبقى اختيار وحيد وهو وفق نص المادة (84): أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا الرئاسة المؤقتة للبلاد في مرحلة انتقالية يتم فيها خطوات وإجراءات وتدابير يقوم بها الجيش نفسه.
ما الضمان لسلامة الانتقال السلمي للسلطة إلى شرعية جديدة يرتضيها الشعب في ظل هذه الأوضاع؟
الضمان الأول هو رعاية الله لهذا الشعب العظيم الذي قدّم الشهداء في ثورة عظيمة، الضمان الثاني هو الشعب نفسه الذي حطّم جدار الخوف وثار ولم يعد أحد قادر على إرهابه وتخويفه خاصة بعد انهيار جهاز أمن الدولة الذي بث الرعب في نفوس المواطنين وأفسد كل مجالات الحياة.
الضمان الثالث هو الجيش الذي يؤكد في بياناته أنه ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب وأوفى بتعهداته حتى الآن.
الضمان الرابع هو حوار حر متكافئ بين الخبراء والفقهاء الدستوريين والقوى السياسية التي أجمعت على التغيير وعليها أن تتوافق حول المرحلة الانتقالية حتى تنتقل إلى التنافس في ظل مناخ ديمقراطي يكفل حرية تكوين الأحزاب والحق في التغيير، هذا وقت التضامن والوحدة والتكاتف وليس التنافس والتناحر.
وجاء البيان الرابع 12/2 أكدّ فيه الجيش على:
1) إعادة ترتيب أولويات الدولة على نحو يحقق المطالب المشروعة، وهنا نلحظ المرونة في التعبير، فالتقديم والتأخير إذا كان لمصلحة الشعب فلا يضر، وذلك لرفع التعارض بين الوارد بالبيان رقم (2) الذي كان للتعهد بتنفيذ خطة الرئيس ونائبه حيث أكدّ البيان على الالتزام بما جاء في البيانات السابقة، وقد نشأ وضع جديد يحتاج إلى مرونة.
2) التأكيد على أن سيادة القانون ليست مجرد ضمانة لحرية الفرد ولكنها الأساس الوحيد (لاحظ الوحيد) لمشروعية السلطة.
وهذ يعني عدّة أمور:
- الالتزام بنصوص الدستور التي تحدد ترتيب أولويات من يتولى سلطة البلاد.
- الالتزام بأحكام القضاء التي قضت ببطلان وانعدام مجلس الشعب الحالى ومجلس الشورى.
ومفاد ذلك أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا مسئولية البلاد.
3) الشعب عليه أن يتحمل مسئوليته لدفع عملية الاقتصاد إلى الأمام مقابل تعهد الجيش بنقل السلطة إليه (ثانيًا).
4) تغيير صفة الحكومة إلى حكومة تسيير أعمال، بمعنى إقالة ضمنية للحكومة وانتهاء مشروعيتها لحين اختيار حكومة جديدة (فقرة ثالثة).
5) التطلع لضمان الانتقال السلمي للسلطة وحدّد ملامح النظام الجديد في:
- نظام ديمقراطي حر.
- سلطة مدنية (ليس هناك انقلاب عسكري).
- منتخبة للحكم (انتخابات حرة).
6) الالتزام بكافة الالتزامات والمعاهدات الإقليمية والدولية، عملاً بمدأ قانوني دولي مستقر هو الوفاء بالمعاهدات رغم تغيير الحكومات.
7) العودة إلى شعار "الشرطة في خدمة الشعب" بما يعني تغيير دور جهاز الشرطة في العهد الجديد.
نحن أمام تطورات هامة وخطيرة وأؤكد على ضرورة أن تلتفت قوى المعارضة والنخبة ومعها الشباب الثائر إلى دقة الألفاظ وما تحمله من دلالات وإلى أهمية أن يتوحد الشعب خلف مطالبه المشروعة، لضمان تنفيذها في جدول زمني محدد لا بد أن يأتي في بيانات قادمة.
كل التحية للشعب العظيم الذي ثار وللجيش العظيم الذي حرس الثورة حتى الآن.