الزخرفة وفن العمارة
يعد فن الزخرفة decoration نوعاً من الفنون التطبيقية[ر] لطبيعته التزيينية ولارتباطه بحوامل استعمالية كالعمارة والكتاب والقطع المنقولة. وتتنوع الفنون الزخرفية بحسب أماكن إنتاجها أو بحسب العصور الحضارية التي تجعل من فن الزخرفة أسلوباً متميزاً. ويتضمن هذا الأسلوب مجموعة من البنيات الأساسية مثل الأشكال، والقوام، وتنظيم المواد، والملمس، والتي تتضافر منسجمة لكي تحقق المتعة البصرية والحسية والنفسية، أو تحقق الراحة عندما تكون الزخرفة داخلية، أو تكون مجرد تحفة إذا كانت من السجاد الجداري أو الأواني الخزفية والزجاجية التي استهوت كثيراً الهواة وتجار العاديات، أو أن تكون زينة في المباني الدينية، إذ تدخلت الزخرفة أيضاً في توفير المعاني الروحية والدينية.
مشهد زراعي: تفصيل من زخرفة ضريح يعود تاريخه للعصور القديمة
ولا تقتصر الزخرفة على الرسوم التجريدية أو المحوّرة عن الواقع، بل تشمل الفنون التصويرية التشبيهية التي يقصد منها الزينة والمتعة، وتشمل أيضاً التكوينات المجسمة كالأواني الخزفية أو الأدوات المعدنية الاستعمالية، ويعد تصميمها فناً إبداعياً على الرغم من انتماء إنتاجها للفنون التطبيقية.
أصبحت الزخرفة في الفن الحديث أقرب إلى الفن التشكيلي، بل إن مدارس فنية مثل مدرسة «الباوهاوس» في ألمانيا، ألغت الفروق بين الفن التشكيلي والفن التطبيقي وجمعتهما تحت عنوان الفنون الإبداعية.
رافقت الزخرفة في نشأتها فن التصوير منذ العصور المصرية القديمة والعصور الرافدية، حيث بدت الزخارف المصرية في عمارة الأعمدة المزينة بعنصر سعف النخيل أو ورق البردي أو زهرة اللوتس. وتبدو الزخارف المصرية المستوحاة أيضاً من النباتات في الأثاث المكتشف في مقبرة توت عنخ آمون في الحلي المرصعة. وثمة حليات زخرفية مستوحاة من الحيوان كالجعران والنسور ناشرة أجنحتها، ورؤوس السباع، عدا حليات مزينة بزخارف هندسية هي غالباً إطارات للموضوعات السابقة.
خط نسخي محوّد، 1284هـ، الآيات داخل أشكال بيضاوية محاطة برسومات نباتية مذهبة
وفي بلاد الرافدين تبدو الزخارف المعمارية واضحة في الشراشيف العليا فوق الجدران، وفي المحاريب المضلعة التي تكسو الواجهات المعمارية. وتبدو الزخارف واضحة على الأواني السومرية، وعلى جدران المعابد والقصور الآشورية، وعلى واجهات المباني البابلية، وهي رسوم بارزة خزفية ملونة تمثل المعبودات على شكل حيوانات أسطورية.
وفي الفنون الإغريقية والرومانية، اعتمدت الزخارف على ورقة الأقنثة (نبات) وعلى اللوالب في تزيين تيجان الأعمدة وبعض عناصر العمارة.
واستمرت الزخرفة المجردة منتشرة في جميع العصور المسيحية وعصر النهضة والباروك والروكوكو، ولكنها في الفن الإسلامي كانت أكثر وضوحاً واستقراراً وأصالة في جميع الأحقاب وحتى اليوم.
ابتدأت الزخرفة محدودة بعمليات تزيين العمارة أو تزيين الأواني والكتاب المخطوط. ولكن تقدم الاختراعات وتنوع الأدوات الاستعمالية أدخل الزخرفة في تصميم شكل الأشياء المصنوعة، وأصبح تصميم السيارة أو المكواة نوعاً من الزخرفة الصناعية، وهكذا فإن كلمة زخرفة decoration التي تعني التزيين، تعني أيضاً التصميم كما تعني التنسيق الداخلي الذي يطلق عليه مصطلح «ديكور». كما تحمل كلمة زخرفة معنى التنميق، يدخل في ذلك تنميق الحدائق، وتنميق واجهات المحلات والمخازن، وتنميق الكتاب ثم تنميق داخل العمارة. وتبدو الزخرفة أكثر وضوحاً في تنميق العمارة الداخلية تنميقاً يشمل تزيين جدران الغرف وتنسيق الأثاث والستائر والبسط وتلوين الأرضية والأبواب.
أطلق على الزخرفة الداخلية تسميات كثيرة باللغات الأجنبية أبرزها ما يطلق عليه اسم العمارة الداخلية interior design أو architecture d’interieur التي تختلف عن العمارة الخارجية التي تختص بتكوين الشكل العام للمنشأة المعمارية، حجماً وفراغات وألواناً، ولكن أصبحت العمارة أحياناً فناً زخرفياً بحد ذاته.
تميزت الزخرفة الداخلية بتنوعها حسب العصور. ففي العصور الاتباعية (الكلاسيكية) (اليونانية الرومانية) كانت الزخرفة بسيطة بعيدة عن التعقيد والكثافة والترف، وفي العصور الوسطى أصبحت الزخرفة الداخلية تعتمد على عناصر قابلة للنقل والتعديل، ثم ظهرت الزخرفة الداخلية بمفهومها الخاص منذ حكم الملك شارل الخامس في فرنسا، إذ انطلقت من مبدأ التكامل والترابط بين العمارة الخارجية والداخلية، وصارتا تحملان التصنيف نفسه المنسوب إلى شكل نظام الحكم أو أسماء الملوك. ولم تقتصر الزخرفة الداخلية على عملية التزيين، بل تناولت الأثاث بتصميماته المتعددة، حاملة عنوانات هذه الزخرفة عبر العصور، ولاسيما بعد أن انتقلت الزخرفة الداخلية من قصور الملوك والأمراء إلى قصور الخاصة أو المنشآت الجماهيرية.
استمد المزخرفون عناصر فنهم الزخرفي من تقاليد الزخرفة الاتباعية (الكلاسيكية) في عهد دافيد David الرسام الشهير زعيم الاتجاه الاتباعي المحدث من النزعة الإبداعية (الرومنسية) التي انتهت إلى البحث عن عناصر غرائبية واستشراقية. وفي العصر الحديث انتشرت الزخرفة في الصناعة وفي تصميم الألبسة والأثاث بعيداً عن التقليد والجمود.
اهتمت الزخرفة الداخلية في تشكيل البيئة الداخلية. وما يميز التصميم الداخلي الجيد، مدى مراعاته لحاجات الساكنين وأذواقهم وتقاليدهم.
وتبدو عناصر التصميم الزخرفي في اختيار الأسلوب التقليدي أو الشخصي المبتكر، وهذا ما يجعل المصمم عارفاً بأسرار الأساليب المختلفة، أو قادراً على فرض أسلوب جديد شخصي يحمل اسمه كما في الفن التشكيلي. والعنصر الآخر في فن الزخرفة هو تحديد الوحدة النمطية الزخرفية motif، فقد كان المزخرف المصري القديم يستعمل الوحدات النباتية مثل زهرة اللوتس أو ورق النخيل. وكان المزخرف اليوناني يعتمد على ورقة الأقنثة، بينما اعتمد المزخرف الإسلامي على وحدات نباتية مجردة أو على تشكيلات هندسية مجردة أيضاً.
ترتبط الـوحـدة الـزخـرفيـة بـالأســـلوب، وكـثـيراً مـا كان الأسلوب يتناسب مع رغبة سيد السلطة ملكاً كان أم إمبراطوراً أم وصياً ويحمل اسمه مثل أسلوب لويس الرابع عشر أو لويس الخامس عشر أو الأسلوب الامبراطوري.
غرفة الامبراطورة جوزفين في قصر مالميزون
وتعتمد الزخرفة الداخلية على مبادئ الفن التشكيلي ذاتها، وهي الخط واللون والكتلة والفراغ والظل والنور والحركة. وتتدخل هذه المقومات في تكوين العمل الزخرفي سواء في الكسوة الجدارية والسقفية والأرضية، أو في التأثيث والتنصيب installation أي ترتيب الأثاث، مع مراعاة وظيفة المكان في الأبنية العامة، كالمعابد والمسارح والأسواق المغلقة، أو الوظائف السكنية الخاصة، غرفة الاستقبال أو المعيشة أو الطعام أو النوم أو المكتبة، ويؤدي اللون والضوء دوراً مهماً في تكوين فضاء زخرفي متناسب مع راحة المنتفعين وأذواقهم.
وتقوم جمالية الزخرفة على التناسق والتناسب والتناغم، بمعنى أن جميع عناصر الزخرفة الثابتة والمنقولة، لا بد من أن تتضافر لتكوين الزخرفة الداخلية. إذ أصبح استعمال اللون مرتبطاً بنظريات علم الضوء التي أوضحت العلاقات المختلفة والتأثيرات المتبادلة بين الألوان الطيفية أو القزحية السبعة، والتي وفّرت فرصة للمزخرف كي يختار ألوان الجدران والستائر والأثاث بما يتفق مع مبادئ علم اللون، هذا العلم الذي ابتدأ ظهوره منذ عصر الانطباعيين في فرنسا. ويدخل الضوء في عالم الألوان أيضاً، فهو لم يعد أداة للإنارة فحسب بل للزخرفة والتلوين.
يعتمد فن الزخرفة على الدراسة الأكاديمية التي يجب أن يتخطاها المزخرف، وعلى الاطلاع المستمر على مبتكرات الزخرفة المعاصرة.
كما ترتكز على مبادئ تنفيذية مثل دراسة المكان والأنشطة واستشارة المنتفعين، ثم إعداد مخططات ومساقط ومقاطع المشروع الزخرفي اعتماداً على الوظيفة الاستعمالية، وتوزيع الفضاءات الاستعمالية والهامشية والفراغية بحسب الحاجات والأنشطة. ولا شك أن الدراسة تعتمد أولاً على حجم الميزانية المعتمدة لأعمال الزخرفة الداخلية «الديكور».
وفي الفنون الإسلامية تتصدر الزخرفة مكاناً أساسياً يتجلى في الزخرفة التصويرية التي تسمى «الرقش» أو «أرابيسك»، وهي زخرفة تجريدية تستمد عناصرها من الطبيعة كالأغصان والأوراق، ويطلق عليها اسم الزخرفة النباتية. أو أنها تستمد عناصرها من الأشكال الهندسية كالمثلث والمربع ومن أشكال النجوم السداسية والثمانية التي تشكل نسيجاً زخرفياً متداخلاً. وتبدو هذه الزخارف على الأبنية والأثاث وعلى الأشياء الاستعمالية المنقولة وفي المخطوطات.
أما الزخرفة الداخلية فقد تجلت في المباني الإسلامية العامة كالمساجد والمدارس أو المباني الخاصة كالقصور حيث الزخارف الجدارية، مثل زخارف قصور الحمراء في غرناطة، أو زخارف الجامع الأموي الفسيفسائية، مع زخارف القصور الأموية في الشام، والقصور العباسية في العراق، والمباني المملوكية كزخارف مدرسة جامع الحسن في القاهرة. وفي العصر الحديث لا بد من ذكر الزخارف الجدارية الداخلية في جامع الدار البيضاء.
اعتمدت الزخرفة الداخلية الإسلامية على أثاث متحرك قائم على أغطية مزخرفة وسجاجيد مبثوثة على الأرائك وعلى الأرض والجدران، وستائر ملونة ومطرزة، ومجموعات من الأواني المعدنية والزجاجية التي تعرض في خزائن خشبية مزخرفة حفراً أو تلويناً. وتبدو الأحواض المائية ومساقط المياه «السلسبيل» أو المشاكي المصنوعة من الحجر والرخام الملون والمنزل أو المشقف بتقطيعات فنية تزيينية، من العناصر الأساسية للزخرفة المعمارية الداخلية في البلاد العربية والإسلامية، إضافة إلى الزخارف الزجاجية المعشقة بالجص التي تغطي النوافذ.
بوابة عشتار
لم يكن فن الزخرفة، ممارسة عفوية تعتمد على الفطرة والممارسة، بل إن ورشات التعليم ثم معاهد التدريس، كانت ترفد ساحة الفنون الزخرفية بالاختصاصيين، ففي العصور الإسلامية، رعى السلاطين والملوك المزخرفين والخطاطين، وخصصوا لهم أماكن خاصة للتدريب والتدريس، كما فعل الشاه عباس (1587 ـ 1629م)، والوزير رشيد الدين (القرن 14م)، وفي أوربا ما زالت المدرسة العليا للفنون الزخرفية في باريس، من أعرق المدارس الفنية، وكانت سابقة لمدرسة الفنون الجميلة «بوزار». وقد ازداد اهتمام السلطات بإنشاء معاهد ومراكز للفنون الزخرفية فـي العـصـر الـحـديث كما يبدو واضحاً في أكثر البلاد العربية، إذ أصبحت هذه الفنون مصدراً اقتصادياً مهماً في دول الـمغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب، وتبدو الزخارف الداخلية المؤلفة من البلاطات الخزفية » الزليج » شديدة الانتشار في جميع المباني العامة والخاصة. وكانت زاهرة في الأندلس ومنها انتقلت إلى أنحاء أوربا وإلى إيطاليا خاصة.
جمعت أكثر متاحف العالم روائع من الزخارف الصينية والهندية والأوربية والعربية ـ الإسلامية ممثلة على الأواني المعدنية والزجاجية والخزفية وعلى الألواح والبسط والأقمشة والسجاجيد، مما يعد آيات فنية تفخر هذه المتاحف باقتنائها. وهذا دليل على احترام براعة المزخرف معماراً كان أو خزّافاً أو حائكاً أو صانعاً، وقد أكدت المجموعات المتحفية غزارة الأساليب التي يمارسها المزخرف والتي تصنف بحسب الأزمنة والمناطق، كما أكدت تنوع العناصر الزخرفية التي تثري الزخرفة الداخلية، التي اعتمدت غالباً على هذه العناصر والقطع التزيينية.
ويرتفع تقييم هذه التحف الزخرفية التي يصل سعرها إلى الملايين، ويتبارى الهواة والمقتنون بإغناء مجموعاتهم من تلك التحف الرائعة.
وفي متحف اللوفر في باريس ومتحف درسدن في ألمانيا وبعض المتاحف العالمية أجنحة خاصة بفنون الزخرفة.
وفي المتاحف العربية التي تختص بالصناعات الشعبية والتقليد الفني، قاعات مخصصة للزخرفة الداخلية التقليدية كما في مدينة طرابلس ـ ليبيا، ومدينة الجزائر. وفي متحف التقاليد الشعبية بدمشق الذي يشغل قصر العظم، قاعات مخصصة لعرض الزخارف الداخلية «الديكور» في غرف مختلفة الوظائف مثل غرفة الاستقبال الكبرى، وغرفة المعيشة، وغرفة الحكواتي، وغرفة الكتّاب والتدريس. إضافة إلى أقسام كثيرة مخصصة لعرض الأشياء الاستعمالية المزينة بالزخارف الفنية الإسلامية